بنسليمان تبرز كمركز استراتيجي لتصنيع الطائرات المسيرة في المغرب

تخطو الصناعة الدفاعية في المغرب خطوة نوعية جديدة، مع تحول مدينة بنسليمان إلى أحد أبرز المحاور الصناعية المرتبطة بتكنولوجيا الطائرات المسيرة، في إطار رؤية وطنية تروم الانتقال من مجرد استيراد الأنظمة المتقدمة إلى صناعتها محليًا وبناء خبرة تكنولوجية ذاتية.
شراكة مغربية–إسرائيلية لنقل تكنولوجيا «سباي إكس»
ضمن هذا المسار التصاعدي، أعلنت شركة الدفاع الإسرائيلية “بلو بيرد إيرو سيستمز” مؤخرًا استضافتها وفدًا فنيًا مغربيًا في منشآتها، في إطار برنامج تكويني مكثف يُعتبر خطوة أساسية قبل إطلاق أول خط إنتاج محلي لذخائر “سباي إكس” المتسكعة في بنسليمان.
وأوضحت الشركة عبر منصاتها المهنية أن المهندسين والفنيين المغاربة استفادوا من تكوين يجمع بين الجانب النظري والتطبيق العملي، من خلال الاطلاع المباشر على أساليب التصنيع وسلاسل التجميع وإجراءات مراقبة الجودة. ويأتي ذلك في إطار مبادرة أوسع لنقل التكنولوجيا، تسمح بتوطين المعرفة الصناعية داخل المغرب بدل الاكتفاء باستيراد المعدات جاهزة.
هذا التطور يعكس عمق الشراكة الاستراتيجية، التي لم تعد تقتصر على صفقات شراء تقليدية، بل تتجه نحو بناء قاعدة صناعية حقيقية على الأراضي المغربية. وتشير مصادر متطابقة إلى أن إطلاق خط إنتاج “سباي إكس” قد يكون مجرد بداية، مع إمكانية إضافة نماذج أخرى من الطائرات المسيرة في المستقبل، لتلبية احتياجات القوات المسلحة الملكية وربما التوجه نحو التصدير إلى شركاء إقليميين.
تعاون متقدم مع «بايكار» التركية ومصنع ثانٍ في بنسليمان
بالتوازي مع هذا المشروع، يسير تعاون آخر مع شركة “بايكار” التركية بخطى متسارعة، بعدما حصل على الضوء الأخضر المالي والتنظيمي. ويجري حاليًا تشييد مصنع ثانٍ للطائرات المسيرة في بنسليمان، لن يقتصر دوره على إنتاج نماذج شهيرة مثل TB2 وAkıncı، بل سيتولى أيضًا تصنيع نظام عالي التقنية صُمم خصيصًا ليتلاءم مع متطلبات المغرب الدفاعية.
هذا النظام، الذي تم تطويره وفق تصور مشترك بين الجانب المغربي والجانب التركي، يهدف إلى التكامل مع المنصات الدفاعية الموجودة حاليًا لدى القوات المسلحة الملكية، سواء على مستوى القيادة والسيطرة أو أنظمة الاستشعار والاتصال. وقد فرض تعقيده التقني إرسال مجموعات من الأطر والمهندسين المغاربة إلى مواقع إنتاج “بايكار” في تركيا خلال الأشهر الماضية، حيث خضعوا لدورات تدريبية معمقة تمهيدًا لتحمل مسؤولية تشغيل وإدارة خطوط الإنتاج الجديدة في بنسليمان.
بنسليمان.. تموقع جغرافي مدروس ورؤية صناعية متكاملة
لم يكن اختيار بنسليمان صدفة، بل جاء نتاج دراسة دقيقة لعدة عوامل استراتيجية. فالقرب الجغرافي من قاعدة الدعم اللوجستي للقوات الجوية الملكية يمنح هذه المشاريع الصناعية امتيازات مهمة على مستوى النقل والتخزين والتجريب والتنسيق العملياتي. كما أن المنطقة تتوفر على مقومات تجعلها قابلة للتحول إلى قطب صناعي متخصص في مجال الطيران العسكري والتكنولوجيات المتقدمة.
وينسجم هذا التموقع مع توجه حكومي واضح يرمي إلى خلق أقطاب صناعية متخصصة في مجالات ذات قيمة مضافة عالية، على غرار قطاعي الطيران المدني وصناعة السيارات، لكن هذه المرة في مجال الدفاع والطائرات المسيرة. ويُنتظر أن تساهم هذه الاستثمارات في استقطاب كفاءات جديدة، وخلق فرص عمل عالية التأهيل، وتعزيز شبكات الموردين المحليين في مجالات الإلكترونيات والبرمجيات والمعادن المركّبة.
من مستورد للتكنولوجيا إلى فاعل صناعي إقليمي
تُجسد هذه المبادرات نقطة تحول في مسار الصناعة الدفاعية المغربية، حيث يتضح أن المملكة لا تكتفي بعد الآن بدور الزبون في سوق السلاح، بل تتجه بخطوات ثابتة نحو بناء قدرات صناعية محلية، تسمح لها على المدى المتوسط والبعيد بالتحكم في جزء مهم من سلسلة القيمة المرتبطة بالطائرات المسيرة والذخائر الذكية.
ومع تراكم الخبرة التكنولوجية وظهور جيل جديد من المهندسين والتقنيين المغاربة المتخصصين في هذا المجال، يفتح المغرب أمام نفسه إمكانات واسعة على المستويين الإقليمي والدولي، سواء من حيث تعزيز استقلالية قراره الدفاعي أو من حيث التموقع كمزوّد محتمل للحلفاء في محيطه الجغرافي.
هكذا، تبدو بنسليمان اليوم في قلب تحوّل استراتيجي، يُعيد رسم ملامح الصناعة الدفاعية في المغرب، ويضع اللبنات الأولى لقطاع واعد قد يلعب دورًا محوريًا في المنظومة العسكرية والصناعية للمملكة خلال السنوات المقبلة.


